كتاب الأخلاق - أحمد أمين - مصر ١٩٢٠
كتاب الأخلاق
أحمد أمين - مصر ١٩٢٠
١- علم الأخلاق:
هو علم يوضح معنى الخير و الشر، و يبين ما ينبغي أن تكون عليه معاملة الناس بعضهم بعضاً و ينير السبيل لعمل ما ينبغي.
موضوع علم الأخلاق هي الأعمال التي صدرت من العامل عن عمد و اختيار. يعلم صاحبها وقت عملها ماذا يعمل. و كذلك الأعمال التي صدرت لا عن إرادة و لكن كان يمكن تجنب وقوعها عندما كان مُريداً مُختاراً. فهذان النوعان يُحكم عليهما بالخير و الشر. أما ما يصدر لا عن إرادة و شعور و لا يمكن تجنبه في حالة الاختيار فليس من موضوع علم الأخلاق.
المسئولية الأخلاقية توجد متى وُجِدت الإرادة. و المسئولية نوعان: قانونية ( و غالباً ما تكون على الأعمال الظاهرة) و أخلاقية و هي سلطانها أوسع لأن من يتولى لها المثوبة و العقوبة هو الله و الضمير، وهما يشرفان على الأعمال الظاهرة الباطنة.
٢- الضمير:
هو القوة الآمرة الناهية و التي تسبق العمل و تقارنه و تلحقه. و هو يختلف باختلاف الحالة الاجتماعية للأمة و عُرفها و درجة رقيها و يتأثر بدرجة عقل الإنسان و علمه.
كل انسان مُلزَم بطاعة ضميره و عمل ما يعتقد أنه الحق و ليس هناك مسئولية أخلاقية عليه إذا تبين خطأ ما أمره به ضميره. غاية الأمر أنه يجب عليه أن يُضيء السبيل أمام ضميره بتوسيع عقله و تقوية فكره و تحرِّيه الصواب.
لا قيمة للضمير يأمر و ينهى إذا لم يُدعم بإرادة تنفذ أمره و نهيه. و سر النجاح في الحياة هو الإرادة القوية.
الضمير ككل ملكات الإنسان و قواه تنمو بالتربية و تضعف بالإهمال. و خير شيء في الإنسان ضميره فهو الدليل الذي يهدي سبيل السلام.
٣- الحُكم الأخلاقي:
هو أن تحكم على الشيء بأنه خير أو شر. و لا يصدر إلا على الأعمال الإرادية. و للحكم الأخلاقي على عمل ينبغي أن نعرف غرض العامل منه و لا نحكم نظراً للنتيجة. و لا يُلام على النتائج بشرط أن يكون قد بذل جهده في معرفة ما ينتج من عمله. فالحكم على العمل تبعاً لنتائجه بأنه نافع أو ضار لا يُعتبر حُكماً أخلاقياً. و الحُكم على الشخص بأنه خَيِّر أو شرير يكون بمجموع أعماله فنرى هل معظم أعماله خير أم شر.
مقياس الحكم الأخلاقي تدرج في الرقي بتدرج الناس على أربع مراحل:
العُرف: أو عادة كل أمة في ملبسها و نظام معيشتها و نحو ذلك. (الرأي العام)
الرأي الشخصي: إذا أرتقى المجتمع شعر الفرد بأنه - و إن كان عضواً في مجتمع- فله شخصيته و أن نفسه مستقلة عن قومه، ففى قدرته أن يحكم على الأمور و إن خالف العُرف.
الوجدان: هو شعور الإنسان الطبيعي بالارتياح من العمل أو النفور منه و هي قوة ممنوحة للإنسان كالعين للبصر. و قد تصاب هذه القوة الوجدانية بالمرض فتُخطئ و تصيب.
العقل و الاستدلال: يرى بعض العلماء بعدم وجود القوة الوجدانية بل هي قوة عقلية يحكم بها الإنسان بمقتضى تجاربه.
قوة الحكم الأخلاقي ترقَى برُقي الإنسان، فهو يولد و عنده جرثومة الحكم الأخلاقي ثم ينشأ في الأسرة و يتبعهم في المدح و الذم ثم يتعامل مع الأخوة و يفهم قانون تبادل المنافع فيرتقي. فإذا خرج للعالم تبادل مع الناس المعاملة و اتسع عنده مجال الحكم الأخلاقي فإذا هو تقدم في العلم ساعده علمه ليُميّز الحق و الباطل.
٤- مذاهب علم الأخلاق و نظرياته: و هي المذاهب التي يقيس عليها العلماء الحكم الأخلاقي. ( كمقاييس الأوزان و الأطوال).
٤-١ مذهب السعادة Hedonism : و يقول بأن الإنسان يختار العمل الذي ينتج عنه أكبر اللذات بأقل الآلام. و بالتالي لا يُلام مدمن الشهوات على بحثه على أكبر اللذات و لكن يُلام لعدم تجنبه أكبر الآلام .
٤-٢ مذهب البصيرة Intuition: و يقول بأن للإنسان قوة غريزية باطنة تُميّز الخير و الشر من غير أن تقيسه باللذة و الألم. و أننا نحكم على الصدق و العدل و الشجاعة بأنها خير و على أضدادها بأنها شر و ذلك لصفات ذاتية فيها.
٥- الخير و الشر:
الصفات الخيّرة هي التي نسميها فضائل أما الصفات الشريرة نطلق عليها رذائل.
٦- علاقة الفرد بالمجتمع:
هي علاقة عضوية تماماً كعلاقة أعضاء الجسم الواحد. فالأعضاء كالأفراد و الجسم كالمجتمع. و تنطبق فكرة الأخذ و العطاء و المجتمع العضوي على كل المجتمعات بغض النظر عن صفرها و كبرها كالأسرة و المدرسة و الحزب و الأمة.
و ذهب بعض العلماء لاعتبار الجنس البشري كله جسماً واحداً. كل أمة عضو من أعضائه و كما العضو إذا انفصل مات، كذلك الإنسان إذا انفصل من مجتمعه ادركه الفناء ولم تكن له قيمة.
٧- الحقوق و الواجبات:
الحق هو ما للإنسان و الواجب هو ما عليه. و الحق و الواجب متلازمان، فمتى كان لشخص حق كان هناك واجب، بل واجبين: واجب على الناس أن يحترموا حق ذي الحق و لا يتعرضوا له أثناء فعله. و واجب على ذي الحق نفسه و هو أن يستعمل حقه في خيره و خير الناس.
أساس الحقوق والواجبات هو المعيشة الاجتماعية و وجود الفرد في مجتمع. الأشياء الضرورية لبقاء المجتمع كالمحافظة على الأرواح والأموال سميناها حقوقاً للأفراد في المرتبة الأولى و أوقعنا العقوبات الشديدة على من ينتهك حُرمتها صوناً للمجتمع من الفناء. و الأشياء التي هي سبب في رفاهية المجتمع و كماله كالتعليم جعلناها حقوقاً في المرتبة الثانية.
الحقوق: لنذكر بعض الحقوق وما يجب إزائها:
أ- حق الحياة:
لكل إنسان الحق أن يحيا. و لما كانت معيشة الانسان اجتماعية فكان عدلاً أن يضحي الفرد بحياته لحفظ حياة المجتمع كما إذا هوجمت الامة وهذه أحوال نادرة. أما فيما عداها فحق الحياة حق مقدس. و حق الحياة لا يمكن أن يتوافر لكل الأفراد ما لم تتوفر لهم وسائل المحافظة على الحياة بسهر الحكومة على المحافظة على الأمن و تتوافر وسائل المعيشة حتى لا تقع الامة في مجاعة أو يكثر فيها العاطلون.
و حق الحياة ككل حق يستلزم واجبين: واجب على زي الحق أن يحفظ حياته و يقضيها في أحسن الوجوه التي تنفع نفسه و الناس، و واجب على الناس أن يحترموا هذا الحق للفرد فلا يتعدوا عليه.
ب- حق الحرية:
أولاً نبدأ بتحديد معنى الحرية. الحرية المطلقة هي أن يريد الإنسان و يعمل ما يريد من غير أن يكون لأي شيء آخر سلطان على ارادته او عمله. و هذه الحرية لله وحده. أما الحرية المقيَّدة و التي تصلح للناس و جاء تعريفها في (اعلان حقوق الإنسان) الصادر في فرنسا عام ١٧٨٩ بأنها القدرة على عمل كل شيء لا يضر بالغير. و لفهم الحرية فهماً صحيحا يجب أن نبين انواعها:
ب-١: الحرية التي هي ضد الاسترقاق: و الفرق بين الحر و الرقيق واضح. و الحرية حق طبيعي منحه الله للإنسان منذ وُلِد. قد تكون الحرية مدرسة شاقة و لكنها المدرسة الوحيدة التي يتعلم فيها الإنسان أن يكون إنسانا حقا.
ب-٢: حرية الأمم اي استقلالها: لا تحس الامة شخصيتها الا اذا نالت حريتها و لا تنهض و تجد في نَيل كمالها إلا إذا كانت تدير شؤون نفسها بنفسها. و هذا النوع من الحرية هو الخطوة الاولى في كثير من الأحيان لتحقيق الأنواع الأخرى كالحرية المدنية و السياسية.
ب-٣: الحرية المدنية: و هي أن يكون الشخص آمناً من التعدي عليه و على ملكه ظلماً. و إذا تقدّم الناس في الحضارة أصبح لكل فرد في الأمة الحق أن يدافع عن نفسه أمام القضاء وأمِن أن يُسجن أو يُحبس او يُعاقب أية عقوبة إلا إذا حُكم عليه بمقتضى قانون البلاد .و هذا النوع من الحرية يشمل عدة أنواع منها:
حرية الرأي: ان يكون كل إنسان حراً في الحكم على الأشياء بما يعتقد أنه الحق. فليس الاجتهاد والتفكير والحكم على الأشياء بأنها صواب و خطأ من حق طائفة خاصة بل من حق كل فرد أن يقول أو يكتب ما يراه صواباً- في أدب من القول، بعد أن يتثبت منه و يقوم عنده البرهان على صحته- و إن خالف العظماء و العلماء. ثم تتطاحن الآراء صحيحها و فاسدها حتى يتغلب الحق و يتجلى للناس.
ب-٤: الحرية السياسية: و هي أن يكون للإنسان حق في أن يأخذ نصيباً في حكم بلاده بالتصويت في الانتخابات ونحو ذلك. و هذا الحق أيضا يستلزم واجبين: واجب على الناس و الحكومات أن يحترموا حق الفرد في الحرية فلا يتدخلوا في شئون إلا للمصلحة العامة و عند الضرورة، و واجب على الأفراد أن يسمحوا للخطباء و الكتَّاب أن يُبدوا آرائهم حتى لو خالفت مذهبهم. فالأفراد يؤدون واجبهم يوم يكون القول حراً والنقد المؤدي حراّ و الحجة وحدها هي وسيلة الإقناع.
يجب أن ينضم شعور الفرد بأنه حر و أنه سيد نفسه إلى شعوره أنه لا يعيش وحده و لكنه عضو في أمة و انه مسئول عن حرية هذه الأمة. و من مميزات الأمم الراقية نماء هذين الشعورين في أفرادها و تعادلهما. أعني الشعور بالحرية و الشعور بالمسؤولية. فليست الحرية تُشترى أو تُمنح ولكن تُكتسب بالعمل لنيلها، و حسن الاستعداد لها.
ج- حق الملك:
يكاد يكون هذا الحق مكملاً لحق الحرية. و بالملاحظة نرى شكلين للملك:
ملك خاص: كملك شخص كتابا او منزلا و هو خير عندما تكون ملكيته ادعى للعناية و التدبير.
ملك عام: كالسكك الحديدية و المتاحف و دار الكتب و ذلك لحمايتها من الاحتكار و استبداد المالك.
د- حق التربي:
لكل إنسان حق أن يتربى ويتعلم حسب كفائته و استعداده. فله الحق أن يتعلم القراءة والكتابة و أن يرقّي ملكاته في الفنون و العلوم. و أن يتهذّب بأنواع التهذيب المختلفة. فالعلم باب للأخلاق القويمة و الدين الصحيح. به يشعر الإنسان بنفسه و به ترقى شخصيته.
و واجب على الحكومات إزاء هذا الحق إعداد الوسائل لكل فرد من أفراد الأمة لينال درجة من التربية تؤهله لأن يكون عضواً صالحاً في المجتمع يعرف حقوقه وواجباته.
٨- الواجبات و الحقوق:
هو العمل الأخلاقي الذي يبعث على الإتيان به الضمير. و قد اختلف العلماء على تقسيم الواجب. فمنهم من قسمه من حيث الواجب على الشخص لمن :
١- واجبات شخصية: واجب على الشخص لنفسه كالنظافة والعفة.
٢- واجبات اجتماعية: واجب على الشخص لمجتمعه كالعدل والإحسان.
٣- واجبات إلهية: واجب على الشخص لربه كالطاعة و أداء العبادات.
و آخرون قسموا الواجب من حيث الشخص الذي عليه الواجب:
١- واجبات محدودة: يُكلف بها الأشخاص على السواء و يمكن وضعها في قانون الأمة مثل لا تقتل، لا تسرق و توضع عقوبات لمنتهكها.
٢- واجبات غير محدودة: فكل حالة من حالات الحياة تقتضي واجباً معيناً. و الناس في هذه الدنيا كبحارة السفينة لكلٍ عمل و على كلٍ واجب. فالناس مختلفون في عدة أوجه حسب الثروة و الرتب و العمل.
التضحية في أداء الواجب: على كل إنسان أن يؤدي واجبه لأنه لايعيش في هذه الحياة لنفسه فحسب بل يعيش له و للناس. و لا يبقى العالم و يرقى إلا بأداء الواجب . و بقدر قيام الأفراد بواجبهم يُقاس رقي الأمة. و كثيراً ما يكلف القيام بالواجب مشقات ينبغي أن نتحملها و تضحية يلزم ان نقدمها فمثلا القاضي قد يضطر إلى الحكم على صديقه أو قريبه فيؤلمه ذلك. و يجب أن نتحمل التضحية - مهما آلمت- عن رضا و ارتياح و يجب أن نعد مكافأة الضمير فوق كل مكافأة. وهنا يجب التنبيه لأمرين:
الأول: التضحية ليست خيراً في نفسها و لكن إذا كان الواجب لا يمكن أداؤه إلا بها وجبت التضحية.
الثاني: ليس لأداء أي واجب تُقدم أي تضحية، فلابد أن يُوازن بينهما. فمتى أقتنع الإنسان بخيرية التضحية وجبت عليه.
ولنذكر الآن أهم الواجبات:
٨-١- واجبات الإنسان لله: نحن مدينون لله بكل شيء و واجب علينا حبه وإجلاله ومن آثار حبه التعبد بأشكال العبادات المختلفة. و ان من احسن انواع الشكر لله الخضوع لقوانين الأخلاق و العمل بما تقتضيه.
٨-٢- واجب الإنسان لنفسه: يجب على الإنسان نحو نفسه أن يُكمل ذاته جسديا و عقليا و خُلُقيا.
٨-٢-١ الناحية الجسدية: يجب للجسم الهواء النقي والغذاء الصالح و الرياضة و الاعتدال في العمل. إن سوء الصحة أكبر تلف يصيب الإنسان فغالبا ما يكون ضعف البدن سببا في سوء الخلق و ملل العقل وعدم القدرة على الإنتاج.
٨-٢-٢ الناحية العقلية: إن كسب الإنسان معلوماته يكون عن طريق حواسه أولا ثم عقله ثانيا، لذلك يجب على الإنسان تمرين حواسه حتى تكون ما تدركه صحيحا. ولا يمكن النجاح العلمي إلا بصفات أخلاقية لابد من توافرها:
ا) تحمّل الصعاب والصبر عليها.
ب) حب الحقيقة فلا ننخدع بالمظاهر و الميل الشخصي.
٨-٢-٣ الناحية الخُلُقية: ونوضح هنا أهم سببين للوقوع في الرذائل:
ا) التغالي في حب النفس: وهو أصل كبير من أصول الشر. فلو وضع الإنسان نفسه و غيره في مستوى واحد ما استباح لنفسه الإجرام.
ب) الجهل: و نعني به الجهل بأن الناس مثلنا بما لهم ظن حقوق و عليهم من واجبات.
٨-٣واجب الإنسان لأسرته: يتعلم الإنسان في البيت أهم دروس حياته. و يجب على كل فرد ان يعمل على أن يكون بيته أسعد مكان. فخشونة المعاملة و القول إذا كانت خارج البيت رذيلة فهي في البيت أرذل.
٨-٤ واجب الانسان لوطنه: الوطنية هي حب الإنسان لبلاده مهما كانت. و تكون عند أكثر الناس في حالة كمون إلى أن يدهم الوطن خطر فتتنبه مشاعرهم. و هناك مظاهر لحب الوطن:
ا) الدفاع عن البلاد إذا هوجمت أو أُريد التعدي على حريتها.
ب) وقف الحياة على خدمة الوطن. و هذه وطنية السياسيين و المُصلحيين.
ج) أداء الواجب. و هذه وطنية كل الناس بأداء واجبهم اليومي.
٨-٥ واجب الإنسان نحو الإنسانية عامة: النوع الإنساني ليس إلا أسرة كبيرة تقوم الأمم فيها و القبائل مقام الأفراد في الأسرة. فيجب أن يكونوا جميعاً متعاونين على ترقية نوعهم و وحقيق الخير للإنسانية عامة.
٩- المثل الأعلى:
كثيراً ما يُسائِل الإنسان نفسه: ماذا أكون؟ ما الذي أطمح إلى أن أكونه في مستقبل حياتي؟ ما الإنسان الكامل الذي أسعى لأن أتمثله يوماً ما؟ الصورة التي في ذهننا نود تحقيقها و نستملي منها لنجيب على هذه الأسئلة تسمى " المثل الأعلى". و تختلف المثل العليا عند الناس اختلافا يكاد يكون بعدد رؤوسهم. و الإنسان الواحد يختلف مثله من حين لآخر. و الأمة الواحدة يختلف مثلها كلما تدرجت في الرقي
١٠- الفضيلة:
و هي الخُلق الطيب و الخلق هو عادة الإرادة. و الفرق بين الفضيلة و الواجب أن الفضيلة صفة نفسية ( يُقال حاز الفضيلة) أما الواجب فعمل خارجي ( يُقال أدى الواجب). و الكلمة نفسها مأخوذة من الفضل وهو الزيادة.
تختلف قيمة الفضائل في الأمم و كذلك مفهومها باختلاف العصور و لكن نستطيع أن نقول إن الناس جميعاً مهما اختلفوا مطالبون بفضائل عامة من صدق وعدل و نحوهما. و أنهم على اختلاف طبقاتهم و درجاتهم يستوون في شئ واحد وهو أن كلاً منهم مطالب أن يضع في الدرجة الأولى من الأخلاق ما يناسب حالته و يتفق مع مركزه الاجتماعي و عمله الذي يؤديه. و للفضائل وسائل مختلفة تعين على غرسها و أهمها : تكوين العادات الصالحة في الطفل من صغره، و القدوة الصالحة، و دراسة علم الأخلاق.
لا نستطيع عد الفضائل كلها و الكلام عنها تفصيلاً و لذلك نختار بعض الفضائل الهامة و نشرحها:
١٠-١ الصدق: هو أن يخبر الإنسان بما يعتقد أنه الحق سواء بالقول أو الفعل كالإشارة، فمن ارتكب جريمة ورأى غيره يُؤنب على ارتكابها و سكت فقد كذب. و من الكذب أيضا المبالغة في القول مبالغة تجعل السامع يفهم منه أكثر من الحقيقة. و من الكذب أن يحذف المتكلم بعض الحقيقة إذا كان ذِكر ما حُذف يجعل لما ذُكر لونا خاصاً. و هناك طريقة واحدة للصدق وهي أن يقول الإنسان الحق كل الحق و لا شيء إلا الحق. والصدق هو من أسس الفضائل و هو عنوان رقي الأمم وانحطاطها. و الكذب لا يُباح في اية حالة و لكن الحقيقة المؤدبة أشهى إلى نفس طالب الحقيقة من القول الكاذب المزوق. و قد تكذب أمة على أمة في حالة الحرب و هذا لا يعتبر كذبا لأن الأمة بإعلانها الحرب على أخرى فقد أعلنت بألا تفاهم بينهما و حيث لا تفاهم لا كذب.
١٠-٢ الشجاعة: هي مواجهة الآلام أو الخطر عند الحاجة في ثبات. و ليست مرادفة لعدم الخوف كما يظن بعض الناس. و هي تعتمد على ضبط النفس و عمل ما ينبغي. فأكبر مظاهر الشجاعة حضور الذهن عند الشدائد. و الشجاع ليس بالمتهور الطائش الذي لا يخاف مما ينبغي أن يخاف منه ولا بالجبان الذي يخاف مما لا يُخاف منه.
و هناك الشجاعة الأدبية و هي أن يُبدي الإنسان رأيه و ما يعتقد أنه الحق مهما ظن الناس به و مهما جر عليه ذلك من غضب. وأن يقول الإنسان الحق بأدب وإن تألم منه الناس و يعترف بالخطأ وإن نالته عقوبة ويرفض العمل بما لا يراه صوابا ولو لم يقع رفضه موقعاً حسناً.
١٠-٣ العفة أو الاعتدال أو ضبط النفس: و هو اعتدال الميل إلى اللذات و خضوعه لحكم العقل، اللذات الجسدية والنفسية على السواء. و تتضمن هذه الفضيلة أن يكون الإنسان سيد نفسه لا عبداً لشهوات تسيّره كما تشاء. و فضيلة العفة تتطلب من الإنسان الاعتدال، فإن هو أفرط فأنهمك في شهواته أو بالغ في الزهد فقد حاد عن سواء السبيل.
و أهم أنواع ضبط النفس :
ضبط النفس عند الغضب.
ضبط النفس عن الاسترسال في الانقباض و البسط.
ضبط النفس عن الاسترسال في الشهوات الجسدية.
ضبط الفكر، فإذا حام حول الشرور يوشك أن يقع فيها.
و في ضبط النفس حفظ الصحة وطمأنينة العقل والسعادة والحرية و سلطان كسلطان الربّان الماهر على سفينته.
١٠-٤ العدل: و هو نوعان: عدل بين الأفراد وهو اعطاء كل ذي حق حقه. و من أعدى أعداء العدل "التحيز" و يُحمّل عليه الحب و المنفعة الشخصية و الحكم بالمظهر الخارجي. و يُحمّل على هذا العدل عدم التحيز و توسيع النظر لرؤية المسألة من وجوهها المتعددة. والنوع الثاني هو العدل في المجتمع، والمجتمع العادل هو الذي له من النظم و القوانين ما يُسهل لكل فرد من أفراده أن يُرقّي نفسه على قدر استعداده فلا يكون المجتمع عادل حتى تتوافر لكل طائفة من الناس وسائل رقيهم.
العدل والمساواة: يعتقد كثير من الناس أن العدل في المساواة و الظلم في عدمها. و على اختلاف وسائل الحياة الكثيرة من ثروة و صحة و ذكاء وغيرها، فهل من العدل أن يتساوى الناس في هذه الوسائل؟ الحق أن المساواة التامة غير ممكنة لأسباب أهمها أن الناس يختلفون بطبيعتهم في قواهم و ملكاتهم و أن الاختلاف بين الناس يبعثهم على الجد. وهناك أشياء تُعقل فيها المساواة وهي عدل و عدمها ظلم و من ذلك :
المساواة أمام القانون.
المساواة في الحقوق.
المساواة في المناصب ( أي ليس هناك مناصب مقصورة لفئة خاصة).
المساواة في التصويت في الانتخابات.
العدل و الرحمة: كثيراً ما يقول الناس "الرحمة فوق العدل" وهي جملة صحيحة فقط إذا كان الذي يرحم هو الذي يملك حق العدل ثم هو يتنازل عن حقه في العدل و يرحم (كما لو كان لك دين على أحد فرحمته و تركت دينك أو أجلته) أما الرحمة حيث يكون العدل من حق غيره فخطأ بيّن.
العدل والإحسان: وكثيرا ما يُقرن الناس بينهما. و العدل يعني أداء الواجب من غير تحيز. و الاحسان يعني الفضل في أداء الواجب والزيادة عليه.
١٠-٥ الاعتماد على النفس: هي من أهم الفضائل و يتعود عليها الإنسان من صغره. وهي وسيلة من وسائل الاقتصاد وهي الطريقة الأفضل للتعلم (وأحياناً الوحيدة). إن الصعوبات التي يلقاها الانسان في حياته هي التي تصقل ملكاته. و يجب أن نتعود على الاستقلال في الرأي فلا نقتصر على أن نكرر ما نسمع.( وذلك يستدعي دراسة الشئ و التفكير فيه بأنفسنا قبل إبداء الرأي).
١٠-٦ الطاعة: رأينا فيما سبق أن الإنسان عضو في كثير من الجمعيات كالأسرة و المدرسة و الأمة وهكذا. و لكل جمعية قوانين لابد أن تُتّبع و إلا لا يمكن بقاؤها . والعصيان في كل مجتمع يجر إلى الفوضى. وهناك مواقف يجب ألا نطيع فيها كما لو أُمرنا عصيان القوانين الأخلاقية أو مخالفة الضمير.
الحق أن الطاعة هي الفضيلة البارزة التي تميز المتمدنين و المتوحشين. وخير طاعة ما صدرت عن قلب لا خوفا من عقوبة أو رغبة في مثوبة.
١١- الانتفاع بالزمن:
الزمن كالمال كلاهما يجب الاقتصاد فيه و تدبيره و إن كان المال يمكن جمعه و ادخاره لوقت الحاجة بخلاف الزمن. وقيمة كل من الزمن و المال في جودة إنفاقه وحسن استعماله. و يضيع الزمن بأمرين: ألا يكون للإنسان غرض يسعى إليه، أو أن يكون له غرض محدد لكنه لا يُخلص له، فلا يجد للوصول إليه ولا يعمل ما يتفق معه.
ولا يتطلب الانتفاع بالزمن أن نعمل باستمرار ولا نترك وقتا للراحة و انما يتطلب أن نستعمل أوقات الراحة والفراغ فيما يجعلنا أقدر على العمل. فمن لا يعرف كيف يلهو لم يعرف كيف يجد.
١٢- التعاون:
و هو نوعان:
١٢-١: التعاون بين أفراد الأمة الواحدة: أن كثرة الحاجات والمطالب ألجأت الناس إلى توزيع الأعمال و تخصيص كل طائفة لعمل، وتعاون كل طائفة مع الأخرى. وتخصيص العمل ساعد على الإتقان وعلى توفير الزمن و المال. ولا يصح أن يُسمح بالتعاون بين الأفراد أو الشركات إذا كان في ذلك ضرر بالأمة كما في الاحتكار. فالأخلاق ترضى عن أنواع التعاون الذي تزيد في رقي الأمة.
١٢-٢: التعاون بين الأمم: وهو على ضروب شتى، كالتعاون التجاري، والتعاون على نشر الحضارة، والتعاون في الاختراع والاستكشاف، وكذلك الشأن في العلوم والفنون والآداب، وتتعاون الأمم على ما يصيب إحداها من الكوارث كالزلازل والبراكين، ومن مظاهر التعاون بين الأمم المعاهدات والاتفاقات.
لذلك من السخف أن تعمد أمة إلى فناء أخرى إذ يكون مثلها كمثل تاجر يعمد إلى إحراق منزل عميله.
١٣- الخلاصة:
هذة الفضائل وأمثالها لا يرقى الإنسان في اكتسابها إلا بأمرين:
الأول: محاسبة النفس و سؤالها من حين لآخر في أية فضيلة ارتقيت وفي أيتها ضعفت و بهذا و نحوه يستطيع الإنسان أن يتتبع نفسه و يراقبها في سيرها.
الثاني: الإرادة القوية المسيطرة على النفس وهي قابلة للتمرن، وينبغي على الإنسان أن يكون لإرادته من القوة ما تستطيع به أن توجه نفسه إلى ما تعتقد من خير و صواب.
ملخص لكتاب الأخلاق ... من الكتب التي يجب على كل انسان قراءتها لتقريب مفاهيمنا الأخلاقية و الوقوف على أرض مشتركة تُمكننا من التعايش الآمن و الرقي معاً.
ردحذف